فصل: ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


الجزء العاشر

 ثم دخلت سنة أربعة وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان وكان محمد ولأه إياها فلما خالفوه انتقل إلى سلمْيَة فصرفه محمد عنهم وولى عليهم مكانه عبد الله بن سعيد الحرشيّ فقتل عدة من وجوههم وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار فسألوه الأمان فأجابهم وسكنوا ثم هاجوا فضرب أيضًا أعناق عدة منهم ‏.‏

وفيها‏:‏ عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشام وقنسرين والعواصم وولى مكانه خزيمة بن خازم وأمره بالمقام بمدينه السلام ‏.‏

وفيها‏:‏ بدأ الفساد بين الأمين والمأمون وكان السيب فى ذلك‏:‏ أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفًا عن طوس وناكثًا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله فعلم أن الخلافة إن أفضت يومًا إلى المأمون وهو حي لم يُبْق عليه فسعى في إغراء محمد به وحثه على خلعه وصرْف ولاية العهد بما ضمن فلم يزل الفضل يُصغّر عنده شأن المأمون وُيزل له خلعه وأدخل معه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما فأزاله عن رأيه ‏.‏

فأوًل ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد فلما بلغ ذلك إلى المأمون وعرف عزل القاسم وإقدامه على التدبيرعلى خلعه قطع البريد عن محمد وأسقط اسمه من الطرز والضرب ‏.‏

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم بعث في طلب الأمان لنفسه فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون وهرثمة بعدُ مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعًا ولما دخل رافع في الأمان استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد فتلقاه الناس وولاه المأمون الحرس فأنكر ذلك كله محمد فبدأ بالتدبير على المأمون فكان أول ما دبرعليه أنه كتب للعباس بن عبد اللّه بن مالك - وهو عامل المأمون على الري يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريدًا بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين فبلغ المأمون فعزل العباس ثم وجه محمد إلى المأمون رسلًا ثلاثة‏:‏ العباس بن موسى بن عيسى وصالح صاحب المصلى ومحمد بن عيسى بن نهيك وكتب إليه كتبًا معهم يسأله تقديم موسى على نفسه ويذكر أنه قد سمّاه‏:‏ الناطق بالحق وكان ذلك بمشورة علي بن عيسى بن ماهان فرد المأمون ذلك وسمي المأمون في ذلك اليوم‏:‏ الإمام ‏.‏

وكان سبب هذه التسمية‏:‏ ما جاءه من خلع محمد له ثم ضمن ذو الرياستين للعباس ولاية الموسم وما شاء من أموال مصر فما برح حتى أخذ منه البيعة للمأمون وكان يكتب إليهم الأخبار ويشير عليهم بالرأي ورجعت الرسل إلى الأمين وأخبروه بامتناعه وألحَّ الفضل بن الربيع وعلي بن موسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون وكان الأمين يشاور في خلع المأمون فينهاه القواد وقال له خزيمة بن خازم‏:‏ لا تجرىء القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهحك - فبايع لابنه موسى وأحضنه علي بن عيسى وولاه العراق وكان أول ما أخذ له البيعة بشر بن السميدع وكان واليَاَ على بلد ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواصّ من الناس قليل دون العامة ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر ودس لذكرعبد الله والوقيعة فيه ‏.‏

ووجه إلى مكة كتابًا مع رسول من حَجبَة البيت في أخذ الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما وجعلهما في الكعبة فقدم بهما عليه وتكلم في ذلك بقية الحجبة فلم يحفل بهم فلما أتاه بهما أجازه بجائزة عظيمة ومرقهما ‏.‏

وكان محمد قد كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سمَاها له وأن يوجّه العمال إليها من قبله وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد ليكتب إليه بخبره فاشتد ذلك على المأمون وشاورفي ذلك الفضل بن سهل وأخاه الحسن ثم كتب إليه‏:‏ قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سمَاها مما أثبته الرشيد في العقد وجعل أمره إليً ولو لم يكن ذلك مثبتًا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوٍّ مخوف الشوكة وجنود لا تستتبع طاعتها إلا بالأموال لكان في ذلك نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحبّ من لمِّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرًا من عنايته وأن يستصلحه ببذل كثيرمن ماله فكيف بمسألة ما أوجبه الحق ووكد به مأخوذ العهد ‏.‏

وكان المأمون قد وتجه حارسه إلى الحد فلا يجوزرسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء ولا يستعلم خبرًا ولا يؤثر أثرًا فحصن أهل خراسان من أن يُستمالوا برغبة ورهبة أو يحملوا على مخالفة ‏.‏

ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره فيسلم ممن يدخل موغلًا في هيئة السابلة والطارئة ‏.‏

وفتئشَت الكتب ‏.‏

فوجه محمد جماعة ليناظروا في منعه ما قد سأل وإنما وجهوا ليعْلَم أنهم قد عاينوا وسمعوا ثم يلتمس منهم أن يبدلوا أو يحرفوا فيكون عليهم حجة وذريعة لما التمس ‏.‏

فلما صاروا إلى حدَ الري وجدوا تدبيرًا مؤيدًا وعَقْدًا مستحكمًا وأخذتهم الأحراس من جوانبهم

وكُتب بخبرهم من مكانهم فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين لا خبر يصل اليهم ولا خبر يخرج منهم وقد كانوا على نية بذل الأموال والولايات للمفارقين فوجدوا ذلك ممنوعأ فوصلوا ومعهم كتاب الأمين وفيه‏:‏ أما بعد فإن الرشيد وإن كان أفردك بالطَرْف وضم إليك من الكور ما ضم تأييدًا لأمرك فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك والحق في الفضول أن تكون مردودة في أهلها فكتبت تلطّ دون ذلك بما إن تم أمرُك عليه صيرنا الحقُّ إلى مطالبتك ‏.‏

فكتب المأمون‏:‏ بلغني كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب فيما جُهل فأسأل عن وجهه ولم يسأل ما يوجبه حق فتلزمني الحجة بترك إجابته فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك وأنا مُذعِن بطاعتك

فلما وصل الكتاب تغيظ الأمين وكتب‏:‏ أما بعد فقد بلغني كتابك غامطًا لنعمة الله عليك متعرضًا لِحراق نار لا قِبَل لك بها فأعلمني رأيك ‏.‏

فقال المأمون لذي الرئاستين‏:‏ إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد - وهومائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج فما ترى فقال فو الرئاستين‏:‏ بك حاجة إِلى مالك وأهلك فإن منعك صار إلى خلع عهده وحملك على محاربته وأنا أكره أن تكون أنت المستفتح باب الفرقة ‏.‏

قال‏:‏ فاكتب إليه‏:‏ أما بعد فإن نظر أميرالمؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصَفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببرة وصلته فإذا كان للعامة فأحْر بأن يكون ذلك بصنوه وقد علم أمير المؤمنين حالًا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها وأخبار لا تزال تنكث رأيها وقلة الخراج قِبَلي والأهل والمال والولد قِبَل أمير المؤمنين وما للأهل - وإن كانوا في كفاية أمير المؤمين فكان لهم والدًا - بُدّ من النزوع إلى كنفي وقد وجهت لحمل العيال وحمل المال فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلي لرقة في حمل ذلك والسلام ‏.‏

فكتب الأمين‏:‏ أما المال فمن مال الله وأمير المؤمنين يستظهر لدينه وبه إلى ذلك حاجة في تحصين أمور المسلمين فكان أولى به وأما الأهل فلم أر من حملهم ما رأيت من تعريضهم للتشتيت فإن رأيت ذلك وجهتهم مع الثقة فلما وصل الكتاب قال ذو الرئاستين‏:‏ الرأي حسم ما يوجب الفرقة فإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة وتعرضت بالتأييد والمعونة ودس الفضل بن سهل أقوامًا يكاتبونه بالأخبار اختارهم لذلك وكان أوَّل ما دبر الفضل أن أقام الأجناد وأشخص طاهر بن الحسين فورد الري فنزلها ووجّه الأمين عصمة بن أحمد بن سالم إلى من بهمدان أن يكون في ألف رجل وولاه حرب كُوَر الجبل وأمره أن يقيم بهمدان وأن يوجه مقدمته إلى ساوة وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يحثان محمدًا على خلع المأمون وفي هذه السنة في ربيع الأول‏:‏ عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه وجعل لأصاحب أمره كله علي بن عيسى بن ماهان وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بن صالح ‏.‏

وفيها‏:‏ وثب الروم على ميخائيل فهرب وترهب وكان ملكه سنتين وملَّك الروم عليهم ليون ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد اللهّ بن عباس وهو كان الوالي على مكه والمدينة ‏.‏

وقيل‏:‏ حج بهم علي بن الرشيد ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سلم بن سالم أبو محمد وقيل‏:‏ أبو عبد الرحمن البلخي قدم بغداد وحدَّث عن إبراهيم بن طهمان و الثوري روى عنه‏:‏ الحسن بن عرفة ‏.‏

يوم فطر أو أضحى وما رفع رأسه إلى السماء أكثر من أربعين سنة ‏.‏

وكان داعيَاَ في الإرجاء وكان صارمًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فدخل بغداد فشنع على الرشيد فأخذه وحبسه وقيده باثني عشر قيدأ فشنع عليه أبو معاوية الضرير حتَى بقيت أربعة وكان يدعو في حبسه ويقول‏:‏ اللهم لا تجعل موتي في حبسه ولا تمتني حتى ألقى أهلي ‏.‏

فمات الرشيد فخلت عنه زبيدة فخرج إلى الحج فوافى أهله بمكة قدموا حجاجًا فمرض فاشتهى البرد فجمعوا له فأكل ومات وذلك في ذي الحجة من هذه السنة وقد اتفق المحدثون على تضعيف رواياته عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن محمد الثقفي البصري ولد سنة ثمان ومائة - وقيل‏:‏ سنة عشر - وسمع أيوبًا السجستاني ويحيى بن سعيد الأنصاري وخالدًا الحداد وغيرهم روى عنه‏:‏ الشافعي واُحمد وابن راهويه ويحيى وغيرهم وكان ثقة إلا أنه اختلط في اخر عمره ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد ابن علي بن ثابت أخبرنا يحيى بن علي بن الطيب الدسكري قال‏:‏ سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد بن سعيد بن عصمة يقول‏:‏ سمعت الفضيل بن العباس الهروي يقول‏:‏ سمعت عاصمًا المروزي يقول‏:‏ سمعت عمرو بن علي يقول‏:‏ كانت غلة عبد الوهاب بن عبد المجيد في كل سنة ما بين أربعين ألفاَ إلى خمسين ألفًا فكان إذا أتت عليه السنة ينفقها على أصحاب الحديث فلم يبق منها توفي عبد الوهاب في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة‏.‏

أبو نصر الجهيني المصاب ‏.‏

أنبأنا ابن ناصر الحافظ أنبأنا المبارك بن عبد الجبار أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت أنبأنا أبو الحسن بن رزقويه أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق أنبأنا العباس بن مسروق أنبأنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال‏:‏ كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة ذاهب العقل في غير ما الناس فيه لا يتكلم حتى يُكَلم وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا سئل عن شيء أجاب فيه جوابًا حسنًا مغربًا فأتيته يومًا وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة منكسًا رأسه واضعًا جبهته بين ركبتيه فجلست إلى جنبه فحركته فانتبه فزعًا فأعطيته شيئًا كان معي فأخذه فقال‏:‏ قد صادف منا حاجة فقلت له‏:‏ يا أبا نصر ما الشرف قال‏:‏ حمل ما ناب العشيرة أدناها وأقصاها والقبول من محسنها والتجاوز عن مسيئها ‏.‏

قلت له‏:‏ فما السخاء قال‏:‏ جهد مقل ‏.‏

قلت‏:‏ فما البخل وقدم علينا هارون الرشيد فأخلي له المسجد فوقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منبره وفي موقف جبريل عليه السلام واعتنق اسطوانة النبوة ثم قال‏:‏ قفوا بي على أهل الصفة فلما أتاهم حُرك أبو نصر وقيل‏:‏ هو أمير المؤمنين فرفع رأسه وقال‏:‏ أيها الرجل إنه ليس بين عباد الله وأمة نبيه ورعيتك وبين الله خلق غيرك وإن الله سائلك عنهم فأعد للمسألة جوابًا وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها فبكى هارون وقال‏:‏ يا أبا نصر إن رعيتي غير رعية عمر ودهري غير دهر عمر فقال له‏:‏ هذا والله غير مغن عنك فانظر لنفسك فإنك وعمر تُسألان عما خولكما الله

فدعى هارون بصرة فيها ثلاثمائة نار فقال‏:‏ ادفعوها إلى أبي نصر فقال أبو نصر‏:‏ ما أنا إلا رجل من أهل الصفة فادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم ويجعلني كرجل منهم ‏.‏

وكان أبو نصر يخرج كل يوم جمعة صلاة الغداة فيدخل السوق مما يلي الثنية فلا يزال يقف على مربعة مربعة ويقول‏:‏ أيها الناس اتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة إن العبد إذا مات صحبه أهله وماله وعمله فإذا وضع في قبره رجع أهله وماله وبقي عمله فاختاروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم رحمكم اللهّ فلا يزال يعمل ذلك في مربعة مربعة حتى يأتي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي الجمعة فلا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء الآخرة ‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ إن الأمين أمر بإسقاط الدراهم والدنانيير التي ضربت لأخيه بخراسان في سنة أربع وتسعين وسبب ذلك‏:‏ أن المأمون أمر أن لا يثبت فيها اسم محمد فكانت لا تجوز حينًا

وفيها‏:‏ نهى عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم وأمر بالدعاء لنفسه ثم لابنه موسى وذلك في صفر من هذه السنة وكان موسى طفلًا صغيرًا وذلك عن رأي الفضل بن الربيع فبلغ ذلك المأمون فسُمَي بإمام المؤمنين وكوتب بذلك ‏.‏

ولما عزم محمد على خلع المأمون ل له الفضل‏:‏ ألا تعذر إليه يا أمير المؤمنين لعله يسلم الأمر في عافية فتكتب إليه كتابًا فتسأله الصفح عما في يديه ‏.‏

فقال له إسماعيل بن صبيح‏:‏ هذا تقوية إليهم ولكن اكتب إليه فأعلمه حبك لقربه ‏.‏

فكتب إليه‏:‏ إني أحب قربك التعاونني ‏.‏

فكتب إليه‏:‏ إن مكاني أعود على أمير المؤمنين ثم دعى الفضل فقال‏:‏ ما ترى قال‏:‏ أن تمسك موضعك قال‏:‏ كيف مع مخالفة محمد والمال والجند معه والملوك حولي كلهم عدو لي ‏.‏

قال‏:‏ تصلح ما بيني وبينهم فلما عرف الأمين أنه لا يأتيه وجًه إليه عصمة بن حماد وأمره بقطع الميرة عن خُراسان ‏.‏

وفيها‏:‏ عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان وذلك يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الآخر على كور الجبل كلها‏:‏ نهاوند وهمدان وقمّ وأصفهان حربها وخراجها وضم إليه جماعة من القواد وأمر له بمائتي ألف دينار ولولده بخمسين ألف دينار وأعطى الجند مالًا عظيمًا وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع وأحضر الأمين أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة فصلى الجمعة ودخل وجلس لهم ابنه موسىِ في المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع مَنْ حضرة فقرأ علىِ جماعتهم كتاباَ من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم وما سبق له من البيعة منفردًا بها ولزوم ذلك لهم وما أحدث المأمون من تسمي بالإمام والدعاء إلى نفسه وقطع البريد وقطع ذكره من دار الطرز وأن ما أحدث من ذلك ليس له ‏.‏

ثم تكلم الفضل وقال‏:‏ لا حق لأحد في الخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد ولم بجعل الله لعبد اللّه ولا لغيره في ذلك حظًا وأن الأمير موسى قد أمر لكم من صلب ماله ثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم يا أهل خراسان ‏.‏

وفيها‏:‏ شخص علي بن عيسى إلى الري لحرب المأمون فكان خروجه عشية الجمعة لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وخرج فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره في زهاء من أربعين ألفًا ‏.‏

ولما أراد الخروج ودع أم جعفر فقالت له‏:‏ يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإني على عبد الله مشفقة فاعرف لعبد الله حق إخوته ولا تُبجه بالكلام ولا تفتشره افتشار العبيد وإن شتمك فاحتمله ثم دفعت إليه قيدًا من فضة فقالت‏:‏ إن صار في يدك فقيده به ‏.‏

فشخص ومعه الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة فعرض الجند وعاد إلى مدينة السلام وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام ثم شخص إلى ما وجّه له مسرعًا حتى نزل همدان فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة وكان الأمين قد كتب إلى عصمة بن حماد يأمره بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال إلى علي بن عيسى وكتب إلى أبي دلف القاسم بن علي بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه وشخص علي بن عيسى من همدان يريد الري فكان يسأل عن خراسان فيقال له إن طاهرًا مقيم بالري فيضحك فيقول لم وما طاهر‏!‏ هل هو إلا شوكة بين أعضائي فلقيه طاهر في نحو أربعة آلاف فلما رأى طاهر جمع علي بن عيسى قال‏:‏ هذا ما لا طاقة لنا به ولكن نجعلها خارجية نقصد القلب فحملوا فجرى القتال فقتل علي بن عيسى وألقي في بئر وهزم عسكره وأخذ منهم سبعمائة ألف درهم ‏.‏

وكتب طاهر إلى ذي الرئاستين‏:‏ أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنؤك فداءك كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في إصبعي والحمد لله رب العالمين فدخل على المأمون فبشره فأيد طاهرًا بالرجال وسماه ذا اليمينين وأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة وأعلن يومئذ بخلع الأمين ثم ورد برأس علي بن عيسى يوم الثلاثاء فطيف به خراسان وبلغ الخبر إلى الأمين فندم على نكثه وغدره ومشى القواد بعضهم إلى بعض وذلك يوم الخميس للنصف من شوال فقالوا‏:‏ إن عليًا قد قتل ولا شك أن محمدًا يحتاج إلى الرجال فاطلبوا الجوائز والأرزاق فلعلنا نصيب في هذه الحالة ما يصلحنا فأصبحوا يكبرا ويطلبون الأرزاق وبلغ الخبر عبد اللّه بن خازم فركب إليهم في أصحابه فتراموا بالنشاب والحجارة وسمع محمد التكبير والضجيج فقال‏:‏ ما الخبر فأعلموه فقال‏:‏ مروا ابن خازم فلينصرف عنهم ‏.‏

ثم أمر لهم بأرزاق أربعة شهور ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين وأمر للقواد بالصلات وبعث إلى نوفل خادم المأمون فأخذ ه ستة آلاف ألف درهم التي كان الرشيد وصل المأمون بها وقبض ضياعه وغلاته وأمواله وولى عليها عمالًا من قبله ووجه عبد الرحمن بن جبلة من الأنبار بالقوة والعدة في عشرين ألفًا فنزل همدان لحرب طاهر وولاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان فمر حتى نزل همدان وضبط طرقها وحصر سورها وسد ثلمها واستعد للقاء طاهر ثم التقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم هزمهم طاهر فحصرهم في مدينة همدان وقطع عنهم الميرة فطلبوا الأمان فأمنهم ثم قتل عبد الرحمن بن جبلة ‏.‏

وكان السبب أنه لما أمنه طاهر أقام يريه أنه مسالم له راض بعهده ثم اغتره وأصحابه فهجم بأصحابه عليهم فوضعوا فيهم السيف فثاروا إليهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم أصحاب عبد الرحمن وترجل هو وجماعة من أصحابه فقاتل حتى قُتل ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبل ‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر السفيانيِ بالشام واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية فدعا لنفسه وذلك في ذي الحجة وطرد عنها سليمان بن أبي جعفر بعد أن حصره بدمشق - وكان عامل محمد عليها - ثم أفلت منه بعد اليأس فوجه إليه محمد بن الحسين بن علي بن عيسى بن وحج بالناس في هذه السنة داود بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس وهو كان العامل على مكة والمدينة من قبل محمد وكان على الكوفة العباس بن موسى الهادي وعلى البصرة منصور المهدي وبخراسان المأمون ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إسحاق بن يوسف بن محمد بن محمد الأزرق الواسطي سمع الأعمش والجريري والثوري وغيرهم روى عنه‏:‏ أحمد ويحيى ‏.‏

وكان من الثقات المأمونين ومن عباد الله الصالحين ‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت أخبرنا أبو نصر محمد بن عبد الله بن الحسن المقرئ أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن علي الزيات أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي قال‏:‏ سمعت ‏.‏

الحسن بن حماد سجادة يقول‏:‏ بلغني أن أم إسحاق الأزرق قالت له‏:‏ يا بني إن بالكوفة رجلًا يستخف بأصحاب الحديث وأنت على الحج فأسألك بحقي عليك أن لا تسمع منه شيئًا ‏.‏

قال إسحاق‏:‏ فدخلت الكوفة فإذا الأعمش قاعد وحده فوقفت على باب المسجد فقلت‏:‏ أمي والأعمش‏!‏‏!‏ وقال النبي لله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ طلب العلم فريضة على كل مسلم‏"‏‏.‏

فدخلت المسجد فسلمت فقلت‏:‏ يا أبا محمد حدٌثني فإني رجل غريب قال‏:‏ من أين أنت قلت‏:‏ من واسط قال‏:‏ ما اسمك قلت‏:‏ إسحاق بن يوسف الأزرق ‏.‏

قال‏:‏ فلا حييت ولا حييت أمك أليس حرجت أن لا تسمع مني شيئًا قلت‏:‏ يا أبا محمد ليس كل ما بلغك يكون حقًا ‏.‏

قال‏:‏ لأحدثنك بحديث ما حدثته أحدًا قبلك ‏.‏

فحدثني عن ابن أبي أوفى قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ الخوارج كلاب أهل النار‏"‏‏.‏ توفى إسحاق بواسط في هذه السنة ‏.‏

بكَار بن عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير ‏.‏

يقال‏:‏ بكار وإنما هو‏:‏ أبو بكر كان مدرة قريش شرفًا وبيانًا ولسانًا وجاهًا وحسن أثر وكان الرشيد معجبًا به فاستعمله على المدينة وأقام عامله عليها اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا وأخرج على يده لأهل المدينة ثلاث أعطيات مقدارها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار كل عطاء أربعمائة ألف دينار وكان الرشيد إذا كتب إليه كتب‏:‏ من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى أبي بكر بن عبد الله وكان عماله وجوه أهل المدينة فقهًا وعلمًا ومروءةً وشرفًا ‏.‏

وكان جوادًا فقلّ بيت بالمدينة لم أبو نواس الحسن بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجَراح أبو علي الشاعر المعروف بأبي نواس ويقال له‏:‏ الحكمي وفي ذلك قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه نسبة إلى جده الأعلى الحكم بن سعد العشيرة والثاني‏:‏ أنه مولى الجراح ولد بالأهواز ونشأ بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي واختلف إلى أبي زيد النحوي وكتب عنه الغريب والألفاظ وحفظ عن أبي عبيدة أيام الناس ونظر في نحو سيبويه قال الجاحظ‏:‏ ما رأيت أحدًا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة الاستكراه وسمع الحديث من‏:‏ حماد بن زيد وعبد الواحد بن زيد ومعمر بن سليمان وغيرهم وأسند الحديث ‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار أخبرنا إسماعيل بن علي الخزاعي أخبرنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي أخبرنا أبو نواس الحسن بن هانئ حدَّثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي اللهّ عنه قال‏:‏ لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله من الخير ‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ ودخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه فقال له عيسى بن موسى الهاشمي‏:‏ يا أبا علي أنت في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة وبينك وبين الله هنات فتب إلى الله قال أبو نواس‏:‏ أسندوني ‏.‏

فلما استوى جالسًا قال‏:‏ إياي يخوّف بالله وقد حدّثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لكل نبي شفاعة وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة ‏"‏ أفترى لا أكون منهم ‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ كان أبو نواس للمُحْدَثينَ مثل امرئ القيس للمتقدمين ‏.‏

وقال أبو نواس‏:‏ ما قلت من الشعر شيئًا حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال‏!‏ وله مدائح في الخلفاء‏:‏ أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الغفار قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون حدثنا أبو بكر بن القاسم الأنباري حدَثنا عبد الله بن خلف حدّثني عبد الله بن سفيان حدثني عبد الله الخزاعي عن ابن مبادر الشاعر قال‏:‏ دخل سليمان بن المنصور على محمد الأمين فرفع إليه أن أبا نواس هجاه وأنه زنديق حلال ‏.‏

الدم وأنشده من أشعاره المنكرة أبياتًا فقال له‏:‏ يا عم اقتله بعد قوله‏:‏ أهدي الثناء إلى الأمين محمد ما بعده بتجارة متربص صدق الثناء على الأمين محمد ومن الثناء تكذب وتخرص قد ينص القمر المنير إذا استوى هذا ونور محمد لا ينقص وإذا بنو المنصور عُد حصاؤهم فمحمد يا قوتها المتخلص فغضب سليمان وقال‏:‏ لو شكوت من عبد الله ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن تعاقبه فكيف منه ‏.‏

فقال‏:‏ يا عم كيف أعمل بقوله‏:‏ قد أصبح الملك بالمنى ظفرا كأنما كان عاشقًا قدرا حسبك وجه الأمين من قمر إذا طوى الليل دونك القمرا خليفة يعتني بأمته وإن أتته ذنوبها غمرا حتى لو استطاع من تحننّه دافع عنها القضاء والقدرا فازداد سليمان غضبًا فقال‏:‏ يا عم كيف أعمل بقوله‏:‏ سنصلى الله عليه وسلم العشاق واحدة فإذا أحببت فاستبن ظن بي من قد كلفت به فهو يجفوني على الظنن بات لا يعنيه ما لقيت عين ممنوع من الوسن رشأ لولا ملاحتُهُ خلت الدنيا من الفتن تضحك الدنيا إلى ملك قام بالآثار والسنن يا أمين الله عش أبدًا دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا فإذا أفنيتنا فكن قال‏:‏ فانقطع سليمان عن الركوب فأمر الأمين بحبس أبي نواس فلما طال حبسه كتب إليه‏:‏ تذكر أمين الله والعهد يذكر مقامي وإنشاديك والناس حُضر ونثري عليك الدر يا در هاشم فيا من رأى درًا على الدر َينثر أبوك الذي لم يملك الأرض مثله وعمك موسى عدله المتخير وجداك مهدي الهدى وشقيقه أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر يشير إليه الجود من وجناته وينظر من أعطافه حين ينظر مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة كأني قد أذنبت ما ليس يغفر فإن لم كن أذنبت فيم عقوبتي وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكبر فلما قرأ محمد الأبيات قال‏:‏ أخرجوه وأجيزوه ولو غضب ولد المنصور كلهم ‏.‏

قال المصنف‏:‏ كان أبو نواس قد غلب عليه حب اللعب واللهو وفعل المعاصي ولا أؤثر أن أذكر أفعاله المذمومة لأني قد ذكرت عنه التوبة في آخر عمره وإنما كان لعبه في أول العمر

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا هبة الله بن الحسن الطبري أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا علي بن الأعرابي قال‏:‏ قال أبو العتاهية‏:‏ لقيت أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته ‏.‏

فقلت له‏:‏ أما آن لك أن ترعوي أما آن لك أن تنزجر‏!‏ فرفع رأسه إلي وهو يقول‏:‏ أتراني يا عتاهي تاركًا تلك الملاهي أتراني مفسدًا بالن سك عند القوم جاهي قال‏:‏ فلما ألححت عليه بالعذل أنشأ يقول‏:‏ لن ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر أخبرنا القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا علي بن محمد المعدل أخبرنا عثمان بن محمد الدقاق حدثنا محمد بن أحمد بن البراء أخبرنا علي بن محمد بن زكريا قال‏:‏ دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه فقال لي‏:‏ أتكتب قلت‏:‏ نعم ‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏ دب فيَ الفناء سُفلًا وعلوا وأراني أموت عضوًا فعضوا ذهبت شِرتي بحدة نفسي فتذكرت طاعة الله نضوا ليس من ساعة مضَتْ بيَ إلا نقَّصتني بمرها بيَ حذوا لهف نفسي على ليال وأيا م تَمَلَّيْتُهُنَّ لعبًا ولهوا قد أسَأنَا كل الإسَاءَة يا رَبّ فصفْحًا عنَّا إلهي وعفوا أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي حدثني عبيد الله بن أبي الفتح حدثنا أحمد بن إبراهيم حدَثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري حدَثنا عبد الله بن أبي سعد حدٌثنا إبراهيم بن إسماعيل ابن أخي أبي نواس حدثني جعفر الصائغ قال‏:‏ لما احتضر أبو نواس قال‏:‏ اكتبوا هذه الأبيات على قبري‏:‏ وعظتك أجداث صُمُتْ ونعتك أزمنة خُفُتْ وتكلمت عن أوجه تبلى وعن صور سُبتْ توفي أبو نواس سنة خمس وتسعين ومائة ‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ست ‏.‏

وقيل‏:‏ سنة ثمان ‏.‏

وكان عمره تسعًا وخمسين سنة ودفن بمقابر الشونيزي في تل اليهود أخبرنا القزاز أنبأنا أبو بكر الخطيب أخبرنا علي بن محمد المعدل أخبرنا عثمان بن أحمد أخبرنا أحمد بن البراء أخبرنا عمر بن مدرك حدّثني محمد بن يحيى عن محمد بن نافع قال‏:‏ كان أبو نواس لي صديقًا فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره ثم بلغني وفاته فتضاعف علي الحُزن فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا أنا به فقلت‏:‏ أبو نواس قال‏:‏ لات حين كنيته ‏.‏

قلت‏:‏ الحسن بن هانئ قال‏:‏ نعم ‏.‏

قلت‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ غفر لي بأبيات قلتها هي تحت ثني وسادتي ‏.‏

فأتيت أهله فلما أحسُّوا بي أجهشوا بالبكاء ‏.‏

فقلت لهم‏:‏ هل قال أخي شعرًا قبل موته قالوا‏:‏ لا نعلم إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئًا لا ندري ما هو ‏.‏

قلت‏:‏ إيذنوا لي أدخل قال‏:‏ فدخلت إلى مرقده فإذا ثيابه لم تحرك بعد فرفعت وسادة فلم أر شيئًا ثم رفعت أخرى فإذا برقعة فيها مكتوب‏:‏ يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ أدعوك رب كما أمرت تضرعًا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم محمد بن خازم أبو معاوية التميمي مولى سعد بن زيد مناة ‏.‏

ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وعمي بعد أربع سنين ولازم الأعمش عشرين سنة وكان أثبت أصحابه وكان يُقَدَم على الثوري وشعبة وكان حافظًا للقرآن ثقة لكنه كان يرى رأي المرجئة

وروى عنه‏:‏ أحمد ويحيى وخلق كثير ‏.‏

وروى عن خلق كثير إلا أنه كان يضبط حديث الأعمش ضبطًا جيدًا ويضطرب في غيره ‏.‏

حدًثنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن ثابت أخبرنا أبو رزق أخبرنا جعفر بن محمد الخالدي حدَثنا الحسين بن محمد بن الحسين الكوفي حدّثني جعفر بن محمد بن الهذيل حدّثني إبراهيم الصيني قال‏:‏ سمعت أبا معاوية يقول‏:‏ حججت مع جَدَي أبي وأمي وأنا غلام فرآني أعرابي فقال لجدي‏:‏ ما يكون هذا الغلام منك قال‏:‏ ابني ‏.‏

قال‏:‏ ليس بابنك ‏.‏

قال‏:‏ ابن ابنتَي ‏.‏

قال‏:‏ ليكونن له شأن وليطأن برجليه هاتين بسط الملوك قال‏:‏ فلما قدم الرشيد بعث إلي فلما دخلت عليه ذكرت حديث الأعرابي فأقبلت التمس برجلي البسط فقال‏:‏ يا أبا معاوية لِمَ تلتمس البساط برجليك فحدثته الحديث فأعجب به ‏.‏

قال‏:‏ وحركني شيء فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أحتاج إلى الخلاء ‏.‏

فقال للأمين والمأمون‏:‏ خذا بيد عمكما فأرياه الموضع ‏.‏

فأخذا بيدي فأدخلاني إلى الموضع فشممت منه رائحة طيبة فقالا لي‏:‏ يا أبا معاوية هذا الموضع فشأنك فقضيت حاجتي ‏.‏

قال الخطيب‏:‏ عن محمد بن فضيل‏:‏ مات أبو معاويهّ سنة خمس وتسعين ومائة في آخر صفر أو في أول ربيع الأول ‏.‏

قال المصنف‏:‏ وكذلك ذكر أبو موسى المدائني وغيره أنه مات في هذه السنة ‏.‏

وقد روينا عن ابن نمير أنه مات في سنة أربع والأول أكثر ‏.‏

الوليد بن مسلم الدمشقي أبو العباس ‏.‏

روى عن الليث بن سعد والفضل بن فضالة وابن لهيعة وغيرهم ‏.‏

وروى عنه‏:‏ ابن وهب ‏.‏

وتوفي عند انصرافه من الحج في هذه السنة ‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

أن محمدًا وجه إلى المأمون أحمد بن مزيد في عشرين ألفًَا وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفًا وأمرهما أن يدافعا طاهرًا عن حلوان وكان قد نزلها فنزل بخانقَين فكان طاهر يبعث العيون إلى عسكريهما فيأتونهم بالأراجيف ويحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضًَا فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهرًا وأقام طاهر بحلوان فأتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجه إلى الأهواز فسلم ذلك إليه ومضى إلى الأهواز وأقام هرثمة بحلوان

وفي هذه السنة‏:‏ رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره وذلك أنه لما قتل عليِ بن عيسى وعبد الرحمن بن جبلة وبشره الفضل بذلك عقد له في رجب من هذه السنة على المشرق طولًا وعرضًا وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم وسماه ذا الرئاستين وكان على سيفه مكتوب من جانب‏:‏ رئاسة الحرب ومن جانب‏:‏ رئاسة التدبير ‏.‏

وفيها‏:‏ ولى محمد بن هارون بن عبد الملك بن صالحٍ بن علي الشام وأمره بالخروج إليها وفرض له من رجالها جنودًا يقاتل بهم طاهرًا وهرثمة فسار حتى بلغ الرقة فأقام بها وأنفذ كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة فقدموا عليه فأجازهم وخلع عليهم وحملهم ثم جرى بين الجند خصومات فاقتتلوا وتفرقوا ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خُلع محمد بن هارون وأخذت عليه البيعة للمأمون ببغداد وحُبس في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن المنصور ‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ أن عبد الملك بن صالح لما جمع الناس ثم تفرقوا مات بالرقة فرد الجند الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان إلى بغداد وكان ذلك في رجب فبعث إليه في الليل محمد بن هارون فقال للرسول‏:‏ والله ما أنا بمعبّر ولا مسامر ولا مضحك ولا وليت له عملًا فأي شيء يريد مني في هذه الساعة إذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله ‏.‏

فأصبح الحسين فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن علي وباب سوق يحيى وقال‏:‏ إن خلافة الله لا تجوز بالبطر وإن محمدًا يريد أن يوتغ أديانكم وينكث بيعتكم وبالله إن طالت به مدة ليرجعن وبال ذلك عليكم فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم فو الله ما ينصره منكم ناصر إلاَ خُذل ‏.‏

ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا حتى صاروا إلى سكة باب خراسان واجتمع أهل الأرْباض مما يلي باب الشام وتسرّعت خيول من خيول محمد إلى الحسين فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم كشفهم الحسين فخلع الحسين بن علي محمدًا يوم الأحد لإحدى عشرة من رجب سنة ست وتسعين ‏.‏

وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل وغدا العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى محمد فوثب به ودخل عليه وأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر فحبسه هناك ثم وثب على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى قصر أبي جعفر فأبت فقنعها بالسوط وسبَّها ثم أدخلت المدينة مع ابنها فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وهاج الناس بعضهم في بعض وقام محمد بن أبي خالد بباب الشام وقال‏:‏ والله ما أدري بأي سبب يتأمّر الحسين بن علي علينا ويتولى هذا الأمر دوننا وما هو بأكبرنا سنًا ولا أكرمنا حسبًا وإني أولكم أنقض عهده وأظهر التغيُّر عليه فمن كان رأيه معي فليعتزل معي ‏.‏

وقام أسد الحربي فقال‏:‏ هذا يوم له ما بعده إنكم قد نمتم وطال نومكم فقدم عليكم غيركم وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره وأذهب بذكر فكّه وإطلاقه وجاء شيخ كبير فقال‏:‏ أقطع محمد أرزاقكم قالوا‏:‏ لا ‏.‏

قال‏:‏ فهل قصَّر بأحد من رؤسائكم قالوا‏:‏ لا ‏.‏

قال‏:‏ فما بالكم خذلتموه‏!‏ انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عنه فنهضوا فقاتَلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالًا شديدًا وأسر الحسين ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح فأمرهم فأخفوا من السلاحِ الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومنَّاهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحًا كثيرًا ومتاعًا وأتى الحسين بن علي فلامه محمد على خلافه وقال‏:‏ ألم أقدّم أباك على الناس وأوليه أعنة الخيل وأملأ يده بالأموال‏!‏ قال‏:‏ بلى‏:‏ قال‏:‏ فبم استحققت منك أن تخلع طاعتي وتندب الناس إلى قتالي ‏.‏

قال‏:‏ الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن به ‏.‏

قال‏:‏ فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك وولاّك الطلب بثأر أبيك ومن قُتل من أهل بيتك ‏.‏

ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه وولاه ما وراء بابه وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان فخرج فوقف على باب الجسر حتى إذا خف الناس قطع الجسر وهرب في نفر من مواليه فناس محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه فلما بصر بالخيل نزل فصلى ركعتين وتحرم ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في كلها يهزمهم ويقتل فيهم ثم إِن فرسه عثر به فسقط وابتدره الناس فقتلوه وأخفوا رأسه وذلك في نصف رجب في طريق النهرين وفي الليلة التي قتل فيها الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع وجددت البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة ليلة خلت من رجب ‏.‏

وفيها‏:‏ توجَّه طاهر بن الحسين إلى الأهواز فخرج عاملها محمد بن يزيد المهلبي يحميها فقتل وأقام طاهر بالأهواز وأنفذ عماله إلى كورها ‏.‏

وولي اليمامة والبحرين وعمان ثم أخذ على طريق البر متوجهًا إلى واسط فدخلها وهرب عاملها ووجه قائدًا من قواده إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادي فلما بلغ العباس الخبر خلع محمدًا وكتب بطاعته إلى طاهر وبيعته وكتب منصور بن المهدي وهو عامل البصرة إلى طاهر بطاعته فنزل حتى طرنايا وأمر بجسر فعقد وأنفذت كتبه بالتولية إلى العمال وبايع المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون فكان خلعهم في رجب فلما كتبوا بخلعهم محمدًا أقرهم المأمون على أعمالهم وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد على مكة والمدينة ويزيد بن جرير البجلي اليمن ووجه الحارث بن هشام إلى قصر ابن هبيرة ‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ طاهر المدائن من أصحاب محمد ثم صار إلى صرصر فعقد جسرًا ولما بلغ محمدًا أن الحارث وهشامًا خلفاه وجه محمد بن سليمان العابد ومحمد بن حماد البربري وأمرهما أن يبيتاهما فبلغ الخبر إليهما فوجه طاهر إليهما مددًا فاقتتلوا فهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي وعبر الفرات وأخذ علي البرية إلى الأنبار ورجع محمد بن حماد إلى بغداد ‏.‏

وفيها‏:‏ خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمدًا وبايع للمأمون وأخذ البيعة على الناس وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين والمأمون وكان السبب في ذلك‏:‏ أنه لما أخذ الكتابان من الكعبة جمع داود بن عيسى حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد ما في الكتابين فقال لهم‏:‏ قد علمتم ما أخذ علينا الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام لنكونن مع المظلوم على الظالم وقد رأيتم أن محمدًا بدأ بالظلم والغدر والنكث والخلع وخلع أخويه وبايع لطفل رضيع لم يفطم واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيًا ظالمًا فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه وأن أبايع للمأمون إذ كان مظلومًا ‏.‏

فقال له أهل مكة‏:‏ رأينا تبع لرأيك ‏.‏

فوعدهم صلاة الظهر وأرسل في فجاج مكة صائحًا يصيح‏:‏ الصلاة جامعة وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب فخرج فصلى بالناس الظهر وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام فجلس عليه وحمد الله تعالى وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا أهل مكة أنتم الأصل وإلى قبلكم يأتم المسلمون وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد وقد علمنا أن محمدًا بدأ بالظلم والبغي وقد حل لنا ولكم خلعه وأشهدكم أني خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي ‏.‏

ثم خلعها فرمى بها إلى بعض الخدم تحته وأتي بقلنسوة فلبسها ثم قال‏:‏ قد بايعت لعبد الله المأمون ألا فقوموا فبايعوه فبقوا أيامًا يبايعونه ‏.‏

وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة يأمره يفعل كذلك فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود رحل إلى المأمون فأعلمه بذلك فسًر المأمون وتيمَن ببركة مكة والمدينة وكتب لداود عهدًا على مكة والمدينة وأعمالها وزيد ولاية عكّ وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم وخلع أهل اليمن محمدًا وبايعوا للمأمون ثم عقد محمد في رجب وشعبان نحوًا من أربعمائة لواء لقوَّاد شتى وأفر على جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالسير إلى هرثمة بن أعين فساروا فالتقوا في رمضان فهزمهم هرثمة وأسر علي بن محمد فبعث به إلى المأمون ونزل هرثمة النهروان ‏.‏

وفيها‏:‏ استأمن إلى محمد جماعة من جند طاهر ففرق فيهم مالًا كثيرًا وشغب الجند على طاهر وكان السبب في ذلك‏:‏ أن طاهرًا أقام بصرصر وشمَر لمحاربة محمد وأهل بغداد فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال ودس محمد إلى رؤوساء الجند الكتب بالأطماع فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومت التف إليهم من الجند فَسُرَّ بهم محمد ووعدهم ومنَّاهم فمكثوا شهرًا وقوي أصحابه بالمال فخرجوا إلى طاهر ثم ولوا منهزمين وبلغ الخبر محمدًا فأخرج المال وفرق الصلات فراسلهم طاهر ووعدهم واستمالهم فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة ‏.‏

ثم قدم طاهر فنزل البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة من ذي الحجة وكثر لأصحابه العطاء وأضعف للقواد ونقب أصحاب السجون وخرجوا وفتن الناس وغلب وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى من قبل طاهر ودعا للمأمون الخلافة فهو أول موسم دعي له بالخلافة بمكة والمدينة ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

بقية بن الوليد بن صائد بن كعب أبو محمد الكلاعي البصري ولد سنة عشر ومائة وسمع من خلق كثير وروى عنه‏:‏ شعبة وحماد بن زيد وابن المبارك ويزيد بن هارون وفي أحاديثه مناكير إلا أن أكثرها عن المجاهيل قال ابن المبارك‏:‏ كان ثقة صدوقًا لكنه كان يكتب عن من أقبل وأدبر وقال يعقوب بن شيبة‏:‏ ثقة صدوق ويتقى حديثه عن مشيخته الذين لا يُعرفون وله أحاديث مناكير جدًا ‏.‏

توفي بقية في هذه السنة وقيل‏:‏ في سنة سبع وتسعين ومائة حفص بن غياث بن طلق أبو عمر الكوفي سمع عبيد اللّه بن عمر العمري وهشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وأبا إسحاق الشيباني وسليمان الأعمش وجعفر بن محمد بن علي وليث بن أبي سليم وداود بن أبي هند والحسن بن عبد اللّه وأشعث بن عبد الملك وأشعث بن سوار وابن جريج ومسعر بن كدام والثوري ‏.‏

روى عنه‏:‏ ابنه عمر وأبو نعيم الفضل بن دكين وعفان بن مسلم وأحمد بن حنبل وابن معين وابن المدني وأبو خيثمة والحسن بن عرفة وابن راهويه وعامة الكوفيين وولي حفص القضاء ببغداد وحدّث بها ثم عزل وولي قضاء الكوفة‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أنبأنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وأبو الحسن أحمد بن عمر بن روح النهرواني - قال طاهر حدَثنا وقال أحمد أنبأنا - المعافى بن زكريا الجريري حدثنا محمد بن مخلد بن جعفر العطار حدثني أبو علي بن علان حدّثني يحيى بن الليث قال‏:‏ باع رجل من أهل خراسان جمالًا بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر فمطله بثمنها وحبسه فطال ذلك على الرجل فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره فقال‏:‏ اذهب إليه فقل له أعطني ألف درهم وأحيل عليك بالمال الباقي وأخرج إلى خراسان فإن فعل هكذا فالقني حتى أشير عليك ‏.‏

ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم فرجع إلى الرجل فأخبره فقال‏:‏ عد إليه فقل له‏:‏ إذا ركبت غدًا فطريقك على القاضي تحضر وأوكل رجلًا يقبض المال واخرج فإذا جلس إلى القاضي فادّع عليه ما بقي لك من المال فإذا أقر حبسه حفص وأخذت مالك فرجع إلى مرزبان فسأله فقال‏:‏ انتظرني بباب القاضي فلما ركب من الغد وثب إليه الرجل فقال‏:‏ إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج فنزل مرزبان فتقدما إلى حفص بن غياث فقال الرجل‏:‏ أيد اللّه القاضي لي على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم فقال حفص‏:‏ ما تقول يا مجوسي قال‏:‏ صدق أصلح الله القاضي ‏.‏

قال‏:‏ ما تقول يا رجل قد أقر لك قال يعطيني مالي ‏.‏

قال حفص للمجوسي‏:‏ ما تقول فقال‏:‏ هذا المال على السيدة ‏.‏

قال‏:‏ أنت أحمق تقر ثم تقول على السيدة ما تقول يا رجل‏!‏ فقال‏:‏ إن أعطاني مالي وإلا حبسته

قال‏:‏ ما تقول يا مجوسي ‏.‏

قال‏:‏ المال على السيدة قال حفص‏:‏ خذوا بيدي إلى الحبس ‏.‏

فلما حبس بلغ الخبر أم جعفر فغضبت وبعثت إلى السندي وجّه إليّ مرزبان فأخرجه وبلغ حفص الخبر فقال‏:‏ أحبس أنا ويخرج السندي لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس‏.‏

فجاء السندي إلى أم جعفر فقال‏:‏ الله اللّه في إنه حفص بن غياث وأخاف من أمير المؤمنين أن يقول لي‏:‏ بأمر مَنْ أخرجته ردّيه إلى الحبس وأنا أكلم حفصًا في أمره فأجابته فرجع مرزبان إلى الحبس فقالت أم جعفر لهارون‏:‏ قاضيك هذا أحمق حبس وكيلي فمره لا ينظر في هذا الحكم وتُولي أمره إلى أبي يوسف فأمر له بالكتاب وبلغ حفصًا الخبر فقال للرجل‏:‏ أحضر لي شهودًا حتى أسجل لك على المجوسي بالمال فجلس حفص فسجل على المجوسي وورد كتاب هارون مع خادم له فقال‏:‏ هذا كتاب أمير المؤمنين ‏.‏

فقال‏:‏ انظر ما يقال لك فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه فقال‏:‏ اقرأ على أمير المؤمنين السلام وأخبره أن كتابه ورد وقد أنفذ الحكم فقال الخادم‏:‏ قد والله عرفت ما صنعت ما أردت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد والله لأخبرن أمير المؤمنين بما فعلت فقال حفص‏:‏ قل له ما أحببت ‏.‏

فجاء الخادم فأخبر هارون فضحك وقال للحاجب‏:‏ مر لحفص بن غياث بثلاثين ألف درهم ‏.‏

فركب يحيى بن خالد واستقبل حفصًا منصرفًا من مجلس القضاء فقال‏:‏ أيها القاضي قد سررت أمير المؤمنين اليوم وأمر لك بثلاثين ألف درهم فما كان السبب في هذا قال‏:‏ تمم الله نعم أمير المؤمنين وأحسن حفظه وكلاءته ما زدت على ما أفعل كل يوم ‏.‏

قال‏:‏ ما أعلم إلا أني سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه فقال‏:‏ فمن هذا سُرَّ أمير المؤمنين قال حفص‏:‏ الحمد للهّ كثيرًا فقالت أم جعفر لهارون‏:‏ لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصًا

فأبى عليها ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية وولاه قضاء الكوفة فمكث عليها ثلاث عشرة سنة وكان أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه‏:‏ تعالوا نكتب نوادر حفص فلما وردت أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه‏:‏ أين النواعر التي تكتبها قال‏:‏ ويحكم إن حفصًا أراد الله فوفقه الله ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ قرأت على الحسن بن أبي بكر عن أحمد بن كامل القاضي قال‏:‏ سمعت محمد بن عثمان يقول‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ سمعت عمر بن حفص يقول‏:‏ لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه فبكيت عند رأسه فأفاق فقال‏:‏ ما يبكيك قلت‏:‏ أبكي لفراقك ولما دخلت فيه من هذا الأمر - يعني القضاء - قال‏:‏ لا تبك فإني ما حللت سراويلي على حرام قط ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم منها ‏.‏

أنبأنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا أبو سعد ظفر بن الفرح الخفاف حدَثنا أحمد بن محمد بن يوسف العلاف أخبرنا الحسين بن يحيى بن عباس قال‏:‏ وجدت في كتاب أخي علي بن يحيى أخبرنا العباس بن أبي طالب أخبرنا الحسن بن علي حدّثني يحيى بن آدم عن حفص بن غياث قال‏:‏ ولدت أم محمد بن أبي إسماعيل أربع بنين في بطن قال‏:‏ فرأيتهم كلهم قد نيفوا على الثمانين‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي البيع أخبرنا العباس بن أحمد بن موسى أخبرنا أبو علي الطوماري قال‏:‏ حدّثني عبيد بن غنام قال‏:‏ حدّثني أبي قال‏:‏ مرض حفص خمسة عشر يومًا فدفع إليّ مائة درهم فقال‏:‏ امض بها إلى العامل وقل له‏:‏ هذه رزق خمسة عشر يومًا لم أحكم فيها بين المسلمين لا حظ لي فيها ‏.‏

توفي حفص بن غياث سنة ست وتسعين ومائة كذا قال الفلاس ومحمد بن المثنى وقال خليفة بن خياط ومحمد بن سعد‏:‏ سنة أربع وتسعين وقال عبيد اللّه بن الصباح‏:‏ سنة تسع وتسعين ‏.‏

وقال سلم بن جنادة‏:‏ سنة خمس وتسعين ‏.‏

عبد اللّه بن مرزوق أبو محمد الزاهد زعم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي أنه كان وزير الرشيد فخرج من ذلك وتخلى من ماله وتزهد وكان كثير البكاء شديد الحزن ‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن أحمد حدَّثنا أبو بكر بن محمد بن هبة الله الطبري أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا ابن صفوان أخبرنا عبد اللّه بن محمد القرشي قال‏:‏ حدّثني محمد بن إدريس قال‏:‏ حدَّثنا عبد اللّه بن السري قال‏:‏ حدّثني سلامة قاضي عبد الله بن مرزوق في مرضه حدَثنا سلامة قال‏:‏ قال عبد الله بن مرزوق‏:‏ يا سلامة إن لي إليك حاجة ‏.‏

قلت‏:‏ وما هي ‏.‏

قال‏:‏ تحملني فتطرحني على تلك المزبلة لعلي أموت عليها فيرى مكاني فيرحمني ‏.‏

انقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي وكان أميرًا على الرقة فمدحه في أكثر شعره وكان أبو الشيص سريع الخاطر الشعر عليه أهون من شرب الماء ‏.‏

روى أبو بكر الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال‏:‏ اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشيص ودعبل في مجلس فقالوا‏:‏ لينشد كل منكم أجود ما قال من الشعر فقال رجل كان معهم‏:‏ اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كل منكم قبل أن ينشد ‏.‏

قالوا‏:‏ هات ‏.‏

فقال لمسلم‏:‏ أما أنت فكأني بك قد أنشدت‏:‏ إذا ما علت منّا ذؤابة واحدٍ وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهل هل العيش إلا أن تروح مع الصّبى وتغدو صريع الكأس والأعين النجل قال‏:‏ وبهذا البيت لقب ‏"‏ صريع الغواني ‏"‏ لقبه به الرشيد فقال له مسلم‏:‏ صدقت ‏.‏

ثم أقبل على أبي نواس فقال له‏:‏ وكأني بك قد أنشدت‏:‏ لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند واشرب على الورد من حمراء كالورد تسقيك من عينها خمرًا ومن يدها خمرًا فما لك من سكرين من بدِّ فقال له‏:‏ صدقت ‏.‏

ثم أقبل على دعبل فقال له‏:‏ كأني بك وقد أنشدت‏:‏ لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكا فقال له‏:‏ صدقت ثم أقبل على أبي الشيص فقال له‏:‏ كأني بك قد أنشدت‏:‏ لا تنكري صدي ولا إعراضي ليس المقل عن الزمان براضي فقال له‏:‏ لا ما أردت أن أنشد هذا وليس هذا بأجود شيء قلته ‏.‏

قالوا‏:‏ فأنشدنا ما بدا لك ‏.‏

فأنشدهم‏:‏ وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة حبًا لذكرك فليلمني اللوَّم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظّي منهم وأهنتني فأهنت نفسي صاغرًا يا مَنْ أهون عليك ممن أكرم فقال أبو نواس‏:‏ أحسنت والله وجودت وعمي أبو الشيص في آخر عمره ‏.‏

معاذ بن معاذ أبو المثنى البصري العنبري ‏.‏

ولد سنة تسع عشرة ومائة وسمع سليمان التيمي وشعبة والثوري وغيرهم روى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة وغيرهم وولي قضاء البصرة وكان وقال أحمد بن حنبل‏:‏ ما رأيت أحدًا إلا وقد تعلق عليه شيء من الحديث إلا معاذ العنبري فإنهم ما قدروا أن يتعلقوا عليه في شيء من الحديث مع شغله بالقضاء توفي معاذ بالبصرة في ربيع الآخر من هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين سنة هاشم بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يكنى‏:‏ أبا بكر مدبغي كان من ساكني الكوفة فقدم قاضيًَا على مصر من قبل الأمين في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وكان يذهب مذهب أبي حنيفة ‏.‏

توفي في محرم هذه السنة ‏.‏